30 Nov
القدر

: مخير أم مسير يسألني القراء دائماً في استغراب . . كيف وصلت إلى قرارك الذي تردده في كل كتبك و مقالاتك بأن الإنسان مخير لا . . مسير كيف يكون الإنسان مخيراً و هو محكوم عليه بالميلاد و الموت و الاسم و الأسرة و البيئة ، و لا حول له و لا قوة ، و لا اختيار في هذه الأشياء التي تشكل له شخصيته و . تصرفاته و القراء يقعون في خطاً أولي منذ البداية حينما يقيمون علاقة حتمية بين البيئة و السلوك . . و بين الأسرة تقاليدها و بين الشخصية ، هو تفكير خاطئ ، فلا توجد حتمية في الأمور الإنسانية . . و إنما يوجد - على الأكثر - ترجيح و احتمال و هذا هو الفرق بين الإنسان و الجماد و . هذا هو الفرق بين الإنسان و برادة الحديد برادة الحديد تطاوع خطوط المجال المغناطيسي في حتمية و جبرية و تتراص في خطوط المجال حتما حينما . نرشها حول المغناطيس أما الإنسان فإن علاقته بظروفه لا تزيد على كونها احتمالاً . ترجيحاً الابن الذي ينشأ في عائلة محافظة محتمل أن ينشأ محافظاً هو الآخر مجرد احتمال . . و كثيراً ما يحدث العكس فنرى هذا الابن و قد انقلب متمرداً ثائراً على التقاليد ، محطما لها و هذا هو الفرق بين المسائل الآلية الميكانيكية و المسائل . . الإنسانية . . و نفس الكلام يقال في البيئة

: . البيئة تشكل الإنسان . . و لكن الإنسان أيضاً يشكل البيئة و نظرة سريعة في المجتمع العصري حولنا سوف ترينا كيف أخضع الإنسان مشاكل الحر و البرد و المسافات بعقله علمه و استطاع أن يسودها فهو يكيف الهواء بالمكيفات ، . هو يهزم المسافات بالمواصلات السريعة البرق الهاتف الإنسان ليس كتلة هلامية سلبية تشكلها حتميات البيئة . . لكنه إرادة صلبة في ذاتها لها حريتها في توجيه الأحداث و هذا هو الإنسان الذي ولد طفلاً تحكمه أسرته و بيئته مقتضيات اسمه و تقاليده . . ها هو ذا يهاجر و يغير اسمه بيئته و أسرته و ينتقل إلى مجتمع جديد فيصنع انقلاباً في . هذا المجتمع الجديد و يغيره من أساسه وها هو ذا يموت فيترك كتاباً . . فإذا بالكتاب يغير التاريخ و صحيح أن الإنسان قليل الحيلة في الطريقة التي يولد بها و في الطريقة التي يموت بها . . و لكنه بين ميلاده و موته يصنع حضارة . . أعطاه الله القدرة على أن يبني و يهدم و يحرر و يتحرر و يفكر و يبتكر و يخترع و يفجر و يعمر و يدمر . . و سلمه مقاليد الخير و الشر و حرية . الاختيار حواجز البيئة و ضغوط الظروف لا تقوم دليلاً على عدم الحرية بل هي على العكس دليل على وجود هذه الحرية . . فلا معنى للحرية في عالم بلا عقبات . . و في مثل هذا العالم الذي بلا عقبات لا يسمى الإنسان حراً ، إذ لا توجد . لرغباته مقاومات يشعر بحريته من خلال التغلب عليها و الحرية لا تعبر عن نفسها إلا من خلال العقبات التي تتغلب عليها . . فهي تكشف عن نفسها بصورة جدلية من . خلال الفعل و مقاومة الفعل

و لهذا كانت الضغوط و العوائق و العقبات من أدلة الحرية . و ليس العكس و الفيلسوف الغزالي يحل المشكلة بأن يقول إن الله حر مخير مطلق التخيير و المادة الجامدة مسيرة منتهي التسيير . . و الإنسان في منزلة بين المنزلتين . . أي أنه . مخير مسير في ذات الوقت . . مخير بمقدار مسير بمقدار و توضيحاً لكلامه أقول إن الإنسان حر مطلق الحرية في منطقة ضميره . . في منطقة السريرة و النية . . فأنت تستطيع أن تجبر خادمك على أن يهتف باسمك أو يقبل يدك ، و لكنك لا تستطيع أن تجبره على أن يحبك فمنطقة الحب و الكراهية و هي منطقة السريرة منطقة حرة حررها الله من كل القيود و رفع عنها الحصار و وضع . . جنده خارجها لا يدخل الشيطان قلبك إلا إذا دعوته أنت و فتحت له الباب وقد أراد الله هذه النية حرة لأنها مناط المسئولية . . المحاسبة أما منطقة الفعل فهي المنطقة التي يتم فيها التدخل الإلهي عن طريق الظروف و الأسباب و الملابسات ليجعل الله أمراً . ما ميسراً أو معسراً حسب نية صاحبه فَأَمَّا مَن أغطى واتّقى ( 5 ) وَصَدَقَ بالخشتي ( 6 ) ) فَسَتَيْسَرَهُ لِلْيُسْرَى ( 7 ) وَأَمَّا مَن بَخلَ وَاشتَهُئي ( 8 ) وَكَدَب الليل ) ( ( بالخشني ( 9 ) فَسَتَتِسُرّة للغشرَى ( 10 يمهد الله أسباب الشر للأشرار . . و يمهد أسباب الخير للأخيار . . ليخرج كل منا ما يكتمه و يفصح عن سريرته و . نيته و يتلبس بفعله و بهذا لا يكون التسيير الإلهي منافياً أو مناقضاً للتخيير ،

: و بهذا لا يكون التسيير الإلهي منافياً أو مناقضاً للتخيير فالله يستدرج الإنسان بالأسباب حتى يخرج ما يكتمه يفصح عن نيته و دخيلته و يتلبس باختياره . الله بإرادته يفضح إرادتنا و اختيارنا و يكشفنا أمام أنفسنا و من ثم يكون الإنسان في كتاب الله مخيراً مسيراً في ذات الوقت . . دون تناقض . . فالله يريد لنا و يقدر لنا حتى نكتب على أنفسنا ما نريده لأنفسنا و ما نخفيه في قلوبنا و ما نختاره في أعمق الأعماق دون جبر أو إكراه ، و إنما . استدراجاص من خلال الأسباب و الظروف و الملابسات و في إمكان الواحد منا أن يبلغ ذروة الحرية بأن تكون إرادته هي إرادة الله و اختياره هو اختيار الله و عمله هو أمر الله و شريعته . . بأن يكون العبد الرباني الذي حياته . . هي الناموس الإلهي ، فيعبد الله حباً و اختياراً لا تكليفاً : فيكون الحر الذي يقول عنه الله " عبدي أطعني أجعلك ربانياً تقول للشيء كن فيكون " : إنه الحب الذي قال عنه المسيح لو كان في قلبك ذرة ايمان و قلت للجبل انتقل من ) ) ( ( مكانك لانتقل من مكانه كما يحدث أن نعطي من ذات نفوسنا لمن نحب كذلك . . يعطي الله من ذاته لأحبابه ، فيحقق لهم ما يشاءون . . فيكونون الأحرار حقاً د . مصطفى محمود من كتاب : الشيطان يحكم

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة